التدريب في حياة رجل القانون

في إطار تعزيز التعاون بين النيابة العامة المصرية والمؤسسات الأكاديمية، عقدت النيابة العامة يوم الخميس الموافق 20 فبراير 2025 مؤتمرا للإعلان عن استراتيجية للتدريب بحضور رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، والنائب العام لجمهورية مصر العربية المستشار محمد شوقي، ورئيس جامعة عين شمس الأستاذ الدكتور محمد ضياء زين العابدين، ووزير العدل المستشار عدنان فنجري، ونخبة من الوزراء، ونواب العموم العرب، ورؤساء الجهات والهيئات القضائية، وعمداء الكليات والأكاديميين. وقد أكد الدكتور مصطفى مدبولي على أهمية الاستراتيجية الجديدة للنيابة العامة في التدريب، مشيرًا إلى أنها "تهدف إلى إعلاء قيمة العلم والمعرفة في تطوير الكوادر القضائية"، وأوضح سيادته أن هذه الخطوة تأتي تماشيا مع رؤية مصر 2030، التي تركز على بناء الإنسان المصري وتعزيز قدراته في شتىالمجالات. وقد أكد النائب العام المستشار محمد شوقي أن الاستراتيجية التي أطلقتها النيابة العامة في هذا اليوم "ترتكز على تعزيز التبادل الثقافي والقانوني بين الكوادر القضائية والعلمية والطلابية، مما يسهم في إعداد جيل جديد من القادة القانونيين المؤهلين على المستويين المحلي والدولي". وأشار إلىأن التعاون مع الجامعات والمؤسسات الأكاديمية يعد ركيزة أساسية في تحقيق هذه الأهداف. ومن هنا تأتي أهمية الدراسة القانونية ليس لأعضاء الهيئات القضائية فحسب بل لكل طلاب الجامعات وهذا ما أشار إليه رئيس جامعة عين شمس الأستاذ الدكتور محمد ضياء، حيث تحظى دراسة القانون بأهمية قصوى لجميع الطلاب بغض النظر عن تخصصاتهم المختلفة والتي قد تبدو بعيدة عن مجال القانون إلا إنها لا تخلو من القواعد التنظيمية التي تحكمها.

فدراسة القانون في واقع الأمر، لا يجب أن تكون قاصرة على طلاب كليات الحقوق لأن القانون هو الذي ينظم حياة الأفراد داخل المجتمع ويحدد حقوقهم والتزاماتهم في جميع مناحي الحياة ولا سيما الحياة المهنية. وإن كانت دراسة القانون مهمة لجميع الطلاب فهي أهم من ذلك بكثير لطلاب كليات الحقوق، لذلك تعتبر كليات الحقوق حجر الزاوية في إعداد كوادر قانونية قادرة على مواجهة تحديات المستقبل، حيث يتطلب المجال القانوني مزيجا من المعرفة النظرية والمهارات العملية. وفي هذا السياق، يصبح التدريب العملي والبحث الأكاديمي من أهم الركائز التي يجب أن يستند إليها طالب الحقوق لضمان تأهيله لسوق العمل بشكل كامل. فدراسة القانون ليست مجرد التزام بمتطلبات أكاديمية، بل هي رحلة طويلة تحتاج إلى عمل شاق وتفكير عميق واستعداد مستمر. وهناك العديد من العادات والمهارات التي يجب أن يكتسبها طالب الحقوق من اليوم الأول لدراسته لتصبح رحلته القانونية أكثر نجاحا وتميزا.

بادئ ذي بدء يتعين على طالب الحقوق التركيز على بعض الأمور أثناء دراسته بالكلية ليسهل عليه الأمر فيما بعد. وأول ما يجب أن يحرص عليه الطالب هو حضور المحاضرات الذي لا يقتصر على مجرد الالتزام بالجدول الدراسي أو استيفاء الحضور، بل هو فرصة ذهبية على الطالب استغلالها لفهم الموضوعات القانونية بشكل أعمق. فمن خلال الحضور، يتمكن الطالب منالتفاعل مع أستاذ المادة وطرح الأسئلة التي تفتح آفاقا جديدة للفهموالاستيعاب. ولحضور المحاضرات أهمية كبرى أدركها الطلاب في العقود السابقة حيث كانت المدرجات الضخمة مليئة بالطلاب وكان ذلك انعكاسا لإدراك قيمة المحاضرة وأهميتها في توسيع المدارك وتبسيط المعلومة وشرحها بشكل تفصيلي. فقد يعتقد البعض أن قراءة الكتب والمراجع القانونية كافية للتفوق، وفي الحقيقة تمثل المحاضرات فرصة فريدة لفهم الموضوعات القانونية من منظور الأستاذ الجامعي الذي يقدم تفسيرات يصعب الحصول عليها من خلال المراجع، فالمحاضرة هي عصارة خبرة الأستاذ الجامعي الأكاديمية والعملية كما أن التفاعل مع المحاضر وطرح الأسئلة خلال المحاضرات يساعد على توضيح المفاهيم المعقدة ويمنح الطالب فهما أعمق للنصوص القانونية.

إلى جانب الحضور، يجب أن يكون لطالب الحقوق شغوفا بالقراءة القانونية، فالقانون قائم بشكل كبير على النصوص المكتوبة سواء كانت هذه النصوص من القواعد القانونية أو الأحكام القضائية أو الأطروحات الفقهية، وبالتالي فإن تخصيص الوقت للقراءة القانونية أمر لا بد منه ليس لطالب كليات الحقوق فحسب بل لجميع الطلاب. فالقراءة لا تقتصر على النجاح الأكاديمي، بل تبني قاعدة معرفية قوية للمستقبل. أما فيما يتعلق بطالب الحقوق، فهو لا يستطيع اكتساب مهارات الكتابة القانونية إلا من خلال القراءة، فإذا كانت المحاضرة السمعية والبصرية هي البذور التي تُزرع في الوجدان القانوني للطالب، تعد القراءة المياه التي تروي هذه البذور. وغير خاف أن القراءة هي أمر لا غنى عنه لكل من يعمل في المجال القانوني. ولا تقتصر القراءة هنا على المجال القانوني فحسب، بل تمتد لتشمل جميع التخصصات العلمية. فكماتحتاج التخصصات العلمية المختلفة لدراسة القانون، يحتاج دارس القانون لنفس القدر من المعرفة والإلمام بالتخصصات الأخرى. ففي كثير من الأحيان يتعرض رجال القانون لمسائل قانونية متصلة بعلوم أخرى، فالقراءة لا تعزز فقط المعرفة بالمستجدات القانونية، بل تساعد أيضا على دعم المنطق القانوني ليتمكن دارس القانون من تحليل القضايا وفهم السياقات المختلفة في شتى جوانب الحياة. أما القراءة القانونية فهي تقوم بدور أصيل في تشكيل الأسلوب القانوني لرجل القانون ويظهر ذلك من خلال أسلوبه وتعبيراته، ومن هنا تأتي أهمية الكتابة.

فالكتابة القانونية مهارة أساسية لكل طالب حقوق عليه السعي لاكتسابها منذ الأيام الأولى له في الكلية وتمتد طيلة حياته. ويحتاج الطالب منذ السنة الأولى له بالكلية إلى كتابة إجابة وافية بأسلوب قانوني منضبط وبلغة عربية صحيحة وتستمر هذه المهارة في النمو والتطور مع الوقت والممارسة. فالكتابة كالرياضة تحتاج إلى التدريب والاستمرارية. فالبلاغة القانونية لا يكتسبها رجل القانون بين عشية وضحاها، بل هي ثمر للاجتهاد والمثابرة والتعلم المستمر. لذلك يتعين على طالب الحقوق أن يتدرب على الكتابة الصحيحة والصياغة المنضبطة. فحينما كنت مديرا لوحدة القياس والتقويم، كان التحدي الأكبر هو تطوير نظم الامتحانات دون الإخلال بمكون أساسي لطالب الحقوق وهو الكتابة. فالكتابة لا غنى عنها بغض النظر عن الوظيفة التي سيشغلها طالب الحقوق في المستقبل، فالمحامي يكتب مذكرات الدفاع والقاضي يصيغ حيثيات الحكم. لذلك يحتاج الطالب إلى إعداد المزيد من الأبحاث القانونيةبشكل منتظم للوصول إلى كتابة قانونية سليمة مع الاهتمام بالتدقيق اللغوي والالتزام بالصياغة القانونية الصحيحة. فالكتابة القانونية ليست مجرد وسيلةللتعبير، بل هي أداة لإقناع القارئ وتحليل القضايا بشكل منطقي. ولكي يتمكن الطالب من الكتابة القانونية الجيدة فعليه أن يتعلم مناهج البحث. فالكتابة القانونية تكون في الغالب ناتجة عن بحث أكاديمي متعمق.

يُعد البحث الأكاديمي من الركائز الأساسية في تعليم القانون. فهو لا يساهم فقط في توسيع مدارك الطالب، بل يساعد أيضا في تطوير قدراته الفكرية وتحليل القضايا القانونية واقتراح الحلول المناسبة لها. فمن خلال البحث يتمكن الطالب من استكشاف القوانين من زوايا متعددة وفهم كيفية تطبيقها في الواقع العملي. ويشكل البحث الأكاديمي أساسًا قويًا للراغبين في مواصلة دراساتهم العليا في القانون، حيث يمنحهم مهارات تأصيلية وتحليليةومقارنة كمنهجية ضرورية للنجاح في الماجستير أو الدكتوراه. ومن المعروف أن استخدام المكتبات القانونية والاطلاع على الأحكام القضائية السابقة هي أدوات لا غنى عنها لكل طالب يسعى إلى تطوير مهاراته البحثية. فالبحث يختلف عن القراءة التي سبق الإشارة إليها. فالقراءة هي اكتساب المعرفة، أما البحث فهو الامتداد الطبيعي لهذه المعرفة. البحث إذا هو حلقة الوصل بين الأجيال حتى يبدأ الباحث حيث انتهى الآخرون ولا يبدأ من الصفر. ويختلف كذلك البحث عن الكتابة، فكثير من الطلاب يظنون أن البحث القانوني هو مجرد موضوع تعبير لوصف مسألة قانونية معينة، ولكن في حقيقة الأمر، البحث هو طرح حل أو حلول لإشكالية قانونية معروضة وفقا للضوابط القانونية القائمة. لذلك يعتمد البحث القانوني على الركيزتين السابقتين أي القراءة والكتابة. البحث يساعد أيضًا على تطوير التفكير النقدي، وهو عنصر أساسي لفهم القانون وتحليل القضايا القانونية بشكل عميق وبذلك يساهم البحث القانوني في حل المشكلات التي تواجه الفرد والمجتمع في الواقع العملي.

وجدير بالذكر أن القانون هو من التخصصات التي تجمع بين المعرفة النظرية والمهارات العملية. فالنجاح في هذا المجال يتطلب أكثر من مجرد حضور المحاضرات وقراءة الكتب، فالتدريب العملي جزءًا لا يتجزأ من رحلة طالب الحقوق في مسيرة التفوق. فعلى الرغم من أن الدراسة النظرية تزود الطالب بأساس قوي من القواعد والنظريات القانونية، فإن التدريب يوفر له فرصة كبيرة لتطبيق هذه المعرفة في سياقات عملية وواقعية. ويمكن للطالب من خلال التدريب في مكاتب المحاماة، أو الاشتراك في أنشطة المحاكم الصورية، أو نماذج البرلمانات أو المنظمات الدولية أن يفهم كيفية تطبيق المواد القانونية على القضايا الواقعية، وهو ما يساعده على استيعاب تفاصيل الإجراءات القانونية والتعامل مع النصوص القانونية بشكل احترافي. ويشمل التدريب العملي تطوير مهارات البحث القانوني، وصياغة المذكرات القانونية، والتحليل القانوني للقضايا، والقدرة على التفاوض والدفاع وتفنيد الحجج القانونية. وهذهالمهارات لا تُكتسب من البحث الأكاديمي فقط، بل تتطلب الاحتكاك المباشر ببيئة العمل القانوني. فيتيح التدريب للطالب فرصة التعرف على المحامين والقضاة والمستشارين القانونيين وغيرهم من العاملين في المجال القانوني والقضائي، مما يساعده على بناء شبكة مهنية قوية تسهم في تعزيز فرصه المستقبلية.فيؤهل التدريب العملي الطالب للحصول على فرص عمل في مكاتب المحاماة أو الشركات الكبرى أو الهيئات الحكومية أو المؤسسات الدولية.

وفي النهاية تجدر الإشارة إلى أن التدريب العملي والبحث الأكاديمي ليسا مجرد أنشطة تكميلية لطالب الحقوق، بل هما أساس نجاحه في مسيرته المهنية. ومن خلال التوازن بين المعرفة النظرية والخبرة العملية، يمكن للطالب أن يصبح شخصية قانونية بارزة تساهم في تعزيز العدالة والارتقاء بالمجتمع. لذا، فإن استثمار الجهد في التدريب والبحث منذ السنوات الأولى للدراسة يعد خطوة حاسمة نحو مستقبل مشرق في عالم القانون. بيد أن هذه الخطوة لا تتوقف عند التخرج، بل تمتد إلى أبعد من ذلك بكثير. ومن هنا جاءت مبادرة النيابة العامة لتؤكد على أهمية التدريب في الحياة المهنية لرجل القانون مهما بلغت درجته أو مكانته، فاكتساب المهارات وتطويرها لا يقف عند درجة أو سن معين.

بقلم د. مينا عادل

رئيس شعبة الدراسات القانونية بالمركز